1. مدخل إلى الأزمة
اضطراب وجودي ونفسي قد يصيب بعض الناس حينما يكفر المرء بعد إيمان، فتستولي عليه قناعة بعدم وجود إله، ويكون هذا التحول غالباً نتيجة صدمة نفسية. هنا نتناول الجانب النفسي لصدمة فقدان الاتحاد، التي يعززها صاحِبها لاحقاً بقراءات أدبية تغذي ذلك الاضطراب.
ليس المقصود أن كل الملحدين يعانون اضطراباً نفسياً؛ فلا يستطيع أي عالم نفس جاد إطلاق هذا الحكم. لكن من الواضح أن عدداً غير قليل اتخذ هذا الاتجاه الفكري نتيجة صدمات نفسية عميقة. في داخل بعضهم صوت يهمس: لو كان موجوداً لأنصف المظلوم… سألته كثيراً فلم يجبني… تخلى عني وقت حاجتي.
2. صدمة فقدان الصاحب الأعظم
يرى عالم النفس النرويجي أنجر أن الإنسان المؤمن لا يتجه إلى الإلحاد إلا بسبب صدمة في علاقته بالرب. نوع هذه الصدمة هو إحساسه بأن الصاحب الأعظم تخلّى عنه في لحظة شدته.
فالله في وعي المؤمن هو أقرب صاحب، والإنسان وقت أزمته ينتظر معونة صاحبه. فإذا شعر المؤمن بأن الرب تخلى عنه، ينشأ تشوّه إدراكي يجعله يستنتج:
إذا كان قد تركني حين احتجته، فلا يستحق العبادة… قد يكون كالأب الذي كان سبباً في وجودي لكنه لا يستحق الطاعة… الإله المستحق للعبادة يجب أن يجيب أحبّاءه.
هذه المفاهيم الوجودية المعقدة تتراكم في نفس الإنسان عقب صدمة فقدان الصاحب الأعظم، وتستمر صراعاته حتى يصل إلى قرار الإلحاد فيهدأ مؤقتاً. وهذا الهدوء طبيعي، فهو تحرر لحظي من التفكير العالق.
3. الصدمة: شروطها وتجلياتها
مثل أي صدمة أليمة، ترتبط بأربعة عناصر:
-
مفاجِئة
-
ضخمة
-
بلا حل
-
تثير الشعور بالعزلة
أمثلة واقعية
-
أحدهم ألحد حين شاهد أصدقاءه يُقتلون أمامه بينما يستغيثون بالرب. نجا هو، لكن أصحابه ماتوا. فقال: الله لا يستجيب الدعاء.
-
آخر باغته اللصوص في بيته، سلبوه وهتكوا عرضه، وكان يردد: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. وبعد ما حدث قال: لقد دعوتك فتخليت عني.
هذه التجارب الحادة تعيد تشكيل نظرة الإنسان للوجود، وللخالق، وللإنسانية، فيتولد اضطراب عميق.
4. ماذا يمكن فعله؟ العلاج الإدراكي
العلاج الإدراكي من أنفع الأدوات هنا. ويكون كالتالي:
-
اكتب التشوهات الإدراكية في جدول من عمودين.
في أحدهما الفكرة المشوهة، وفي الآخر الرد العقلاني الذي يبرر الموقف الإلهي دون تحامل. -
تعاطف مع مفهوم الرب كما يقدمه الإيمان.
الرب لا يُقاس بمقاييس البشر. الزمان والمكان لا ينطبقان عليه. ما يُؤخذ اليوم قد يُعوض غداً أضعافاً. -
لا تُسقط قوانين الصحبة البشرية على العلاقة مع الإله.
فهو لا يُسأل عما يفعل، ولا يحتاج عبادتك، ولا يضره كفرك. -
استحضر فكرة التعويض الأخروي.
غمسة واحدة في النعيم تنسي آلام الدنيا. ما نعيشه الآن محكوم بمحدودية زمنية ومكانية ضيقة جداً. -
الإيمان بالغيب ضرورة وجودية.
كثير من الفلاسفة قرروا أن الإنسان يحتاج حظاً من الإيمان بالغيب، وإلا أصبحت الحياة عبثاً محضاً.
5. خطوات عملية للتعافي
-
تأمل الصدمة نفسها. استحضرها، ثم سامح ذاتك، وتحرر منها.
-
اصنع بيئة هادئة. انفصل تدريجياً عن آثار الصدمة.
-
أوقف التفكير المفرط كلما عاد بقوة.
-
تقبل مرحلة الإلحاد كتجربة تمرّ بها النفس ثم انتقل شيئاً فشيئاً إلى الإيمان.
إبراهيم الخليل نفسه خاض رحلة بحث من الكوكب إلى القمر فالشمس، حتى وصل للإيمان الخالص. -
مارس التأمل واليوغا والوجود في الطبيعة.
في الصحارى والليالي المقمرة والكهوف التأملية وُلدت تجارب الأنبياء والفلاسفة. -
فكر بالموت.
فكرة الموت تذيب التشوهات الإدراكية وتعيد ترتيب كل شيء.
6. البصمة الإلهية داخل الإنسان
مهما كان الإلحاد أو الطفل الملحد الدفين الناتج عن صدمة وجودية، تبقى البصمة الإلهية مطبوعة في الإنسان. الإلحاد ظلام، لكنه لا يطفئ ذلك الضوء الداخلي.
وجود الإنسان نفسه دليل على وجود الخالق. الكون جميل ومخيف في آن، لكنه مجرد بصمة من بصمات الله، كالبصمة المزروعة في أعماق الإنسان.
ولو تجول البشر في أرجاء الكون لرأوا حضوراً واحداً لا يختلف عليه اثنان:
الحضور الإلهي المطلق، القوة البالغة، العظمة التي لا تُخفى على من ألقى السمع وهو شهيد.