العقل التكفيري والتشوهات الإدراكية
محمد مسعد ياقوت
15 / 10 / 2024
مقدمة
أثبتنا في المادة السابقة أن «العقل الإرهابي» ينشأ غالباً من فراغ وجودي: حالة خواء وفقدان معنى تدفع الإنسان للبحث عن معزٍّ خارجي يسكّن هذا الألم. الآن نسأل: كيف يتحول إنسان مسالم ذي مشاعر إيجابية إلى كائن يعلو في قلبه حُقد المجتمع ونظرة الكراهية للآخر؟ الجواب يكمن في سلسلة تشوهات إدراكية ونفسية تتطور داخل الذات، فتقلب وعيه إلى آلية عدوانية.
1. من الفراغ إلى التشوه: كيف تتشكل العقلية التكفيرية؟
عندما يتعمق الفراغ الوجودي ينشأ لدى الفرد شعور دائم بالذنب والنقص، واندفاعٌ نحو وساوس دينية متطرفة تطغى على حياته:
-
تشتّت المشاعر والتحكم الضعيف: فقدان القدرة على إدراك المشاعر الشخصية والتحكم فيها، والمبالغة في ردود الفعل تجاه الخلافات البسيطة.
-
تضخيم الخلافات: تصعيد أدق المسائل الفقهية أو السلوكية إلى قضايا عقائدية تُنتج أحكاماً قطعية: «من يختلف معي — كافر أو فاسق».
-
التركيز على كسب الجدل: الفوز في المناظرة يصبح مُهدئاً داخلياً ويعزز من إحساسه بقيمته؛ لذا يتحول النقاش إلى وسيلة تقوية نفسية.
-
عزل العلاقات الاجتماعية: تدمير العلاقات باسم الولاء/البراء، فقدان الكفاءة الاجتماعية، والعجز عن التعامل البنّاء مع الآخرين.
2. المتلازمة السلوكية: أحكام جاهزة وإيذاء نفسي
الذي يكفّر يَصدر أحكامًا مُعلَّبة ويستخدمها كأدوات للسيطرة:
-
الحكم على الآخر بالخلود في الجحيم إن لم يرجع أو يخضع.
-
توظيف النصوص الدينية لتبرير سلوكٍ انتقامي أو استبدادي.
-
ممارسة أقصى وسائل الإيذاء النفسي (اللعن، الحرمان، المقاطعة، النبذ الاجتماعي).
في كثير من الأحيان، يصبح التكفير غطاءً لأفعال تتعارض مع القيم الإنسانية والعدالة.
3. التكفير والسياسة: عندما يصبح الدين سكيناً انتخابياً
من أخطر مظاهر التشوه أن يُستغل الدين في السياسة:
-
تحويل التصويت لمرشح ما إلى واجبٍ ديني يحرم الآخرين من المشاركة، وتجريد المنافس من كونه “ممثلاً شرعياً” بل جعله «وجه الطاغوت».
-
استخدام الرموز الدينية والمظهر (اللحية، الطرَب) لاستدعاء مشاعر الجماهير بدلاً من برامج قابلة للتطبيق.
-
خطب وتلميحات في المساجد تُحوِّل الانتخابات إلى استفتاء ديني بدل نزاع سياسي مدني.
هذه الألعاب النفسية (التهويل، التبرير، تزوير مفهوم «الشخص الصالح») تعمل على تغذية الجماعات التكفيرية وتوسيع قاعدتها.
4. آليات نفسية ولغوية تُسهل التكفير
أمثلة على الأساليب الخطابية والسلوكية التي تستخدم لخلق مناخ تكفيري:
-
«انظروا ماذا فعلت لأجل دينكم» (تبرير الاستبداد)
-
«لولا شريعة الله لما فعلنا هذا» (توظيف الدين لتبرير قرار سياسي/عنف)
-
«دعوني أخبركم عنه» (صناعة رواية تفصيلية لتشويه الآخر)
-
«لو لم تنتخبوا… سيذهب الدين» (التهويل للحصول على الدعم)
النمط واحد: تحويل المشاعر إلى سلاح، وتحويل الخوف إلى طاقة تحريض.
5. التشوه الإدراكي: سمات ثابتة
الملاحظة الميدانية تشير إلى مجموعة سمات ثابتة لدى العقل التكفيري:
-
اعتقادات مطلقة وثنائية (كل شيء أو لا شيء).
-
قِلّة تعاطف واضحة، ولا مبالاة بمعاناة الآخرين.
-
ميول للانغلاق الاجتماعي، والميل إلى التجمعات الأيديولوجية المغلقة.
-
تُحفِّز بيئة الاستبعاد والتهميش هذه التوجهات أكثر (بطالة، ضعف تعليم، انقطاع اجتماعي).
وهذا ليس «ديانة» بحد ذاتها بل مرض إدراكي يستغل نصوصاً وأيقونات دينية.
6. نتائج السلوك التكفيري داخل المجموعات
سلوكيات جماعية تطوّعت لتصبح وسائل عقاب نفسية واجتماعية:
-
المقاطعة الجماعية: تجميد الفرد ومعاقبته اجتماعياً (لا يسمع، لا يُجاب).
-
التنمر والنبذ: الضغط والممارسة اليومية التي تحطم مقاومة المخالف.
-
الممارسة العدوانية المختبئة: في أحيان كثيرة تبدأ بالحطّ من قيمة الآخر ثم تنتهي بالعنف المادي.
الفرد المهمش عادة ما يصبح رهينة تلك الآليات حتى يرضخ أو ينكسر أو ينقلب عنيفًا.
7. لماذا ينجح الخطاب التكفيري؟ عوامل تغذي التشوه
-
الفراغ الوجودي: عندما يفقد الإنسان معنى يعيش قابلية أعلى للتبني الأيديولوجي الشديد.
-
الضغوط الاجتماعية والاقتصادية: البطالة، الهامشية، الشعور بالظلم تعزّز البحث عن حلول سريعة.
-
ضعف الثقافة النقدية والتعليمية: غياب مهارات التفكير النقدي يجعل الناس يقبلون أحكاماً مطلقة.
-
سذاجة تأويل النصوص: تفسير نصوص معقّدة عبر فلاتر بسيطة وكليّة يؤدي إلى أحكام جامدة.
-
القيادة الاستغلالية: قادة يستثمرون الوجع النفسي ليحوّلونه إلى نفوذ سياسي أو سلطوي.
8. مواجهة التشوه الإدراكي: خطوط علاجية عملية
لا يكفي مواجهة التكفير بالعنف الأمني فقط؛ نحتاج استراتيجية شاملة نفسية ـ تربوية ـ اجتماعية:
-
الاستجابة النفسية الفردية
-
برامج تقييم نفسي مبكّر للمعرضين للانزلاق.
-
علاج إدراكي سلوكي (CBT) يركّز على إعادة بناء المعاني والحد من التفكير القطعي.
-
-
التأهيل الاجتماعي والتكامل
-
برامج توظيف، تدريب مهني وإدماج اقتصادي.
-
أنشطة مجتمعية تبني الشعور بالانتماء والتعاون.
-
-
التربية النقدية والدينية المفسَّرة
-
تعليم مهارات التفكير النقدي، وتأويل نصي مسؤول.
-
تشجيع قراءات دينية مرنة تُعلّم التسامح وتفسير النص بحسب السياق.
-
-
مواجهات خطابية وثقافية
-
إعلام عقلاني يسرّب الحقائق ويفضح أساليب التلاعب النفسي والديني.
-
منصّات للحوار المدني بين مختلف الفئات.
-
-
قوانين وسياسات وقائية
-
رصد خطاب التحريض ومساءلة القادة الذين يحوّلون الدين إلى سلاح انتخابي أو سلطة.
-
بناء شبكات دعم نفسية في المدارس والجامعات والأحياء الهامشية.
-
خاتمة
التكفير ليس معضلة فكرية فقط، بل مرض نفسي وجماعي تغذّيه ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية. إن أردنا تجفيف منابعه فعلينا المقاربة من ثلاث جهات: تصحيح التشوهات الإدراكية فرديًا، وإعادة الدمج الاجتماعي والاقتصادي، ووضع حدود أخلاقية وقانونية لاستغلال الدين. لا نجعل الدين مطية للسيطرة؛ ولا نترك الفراغ الوجودي ينبت مَجْرِمًا.