التسابق على العقول: بين الحاضر والماضي
— هنا سر نجاح الأمة الأمريكية
محمد مسعد ياقوت
المقدمة
نعلم جيدًا أن الدول المتقدمة تتسابق على جذب العقول من كل أنحاء العالم. أقرب مثال على ذلك تنافس الولايات المتحدة والصين على جذب أفضل العقول في صناعة أشباه الموصلات، ومن بينهم الخبراء التايوانيون المتخصصون في صناعة الرقائق الإلكترونية. وهناك قطاعات أخرى لا تقل أهمية عن هذا القطاع، مثل الطاقة والطب.
أحد أهم مشاكل البحث العلمي في العالم العربي هو أنّ العديد من المجتمعات الأكاديمية لا تحتضن العقول. بينما الطموح الحقيقي يجب أن يكون بناء مجتمع أكاديمي آمن ومنظم، ودولة داعمة لنبوع الموهوبين، توفّر لهم الحاجات الأساسية من دعم وحرية وأمن.
لماذا تتسابق الدول على العقول؟
التقدم التقني أظهر قدرات الإنسان الكامنة بوضوح. البشر هم من يصنعون الإبداع — الشرائح والروبوتات والصواريخ والمصانع والتماثيل والبيوت الفارهة كلها ثمرة عقلٍ بشري. العقول لا تُقهر، لكنها تحتاج رعاية منذ النشأة: بيئات تحضن الموهبة، برامج تعليمية وتمويلية، وحوافز للريادة والابتكار. الاستيراد التقني مفيد، لكن النجاة الحقيقية في القدرة على صناعة التقنية محليًا وتطويرها.
الابداع لا يولد من فراغ، بل من ثقافة تسأل: ما أصل المشكلة؟ وكيف نحلها جذريًا بدلًا من معالجة الأعراض؟ الموهوبون لا يبكون الماضي ولا يخافون المستقبل؛ الإبداع لديهم هو آلية دفاعية وإنتاج مستمر من محاولات وفشل وتعلم.
دروس من تجارب الدول الناجحة (النموذج الأمريكي)
الولايات المتحدة كانت — وما تزال — ملجأً للعقول من كل أنحاء العالم. وادي السيليكون مثال حي: رواد أعمال ومبرمجون ومبدعون من شتى الجنسيات اجتمعوا لأن البيئة ستسهل لهم كل ما يحتاجونه. هجرة العقول إلى أمريكا بعد الحربين العالميتين جلبت أسماءً كبيرة في العلم والأدب والإدارة والابتكار: أمثلة مثل فيكتور فرانكل، بيتر دراكر، آين راند، وأمثال رواد الأعمال من مهاجرين ناجحين مثل أندرو كارنيجي وستيف جوبز (أبوه مهاجر).
نجاح الولايات المتحدة قائم على عدة عناصر:
-
ثقافة احتضان الموهبة وعدم التمييز ضد المهاجرين.
-
نظام قانوني وقضائي وحماية ملكية فكرية.
-
مؤسسات بحثية وصناعية متصلة بسوق وبتشجيع على المخاطرة.
-
مجتمع يدعم الحرية، النقد البنّاء، والتعاون بين التخصصات.
مواصفات البيئة الجاذبة للعقول
لتصبح بيئتك جاذبة للعقول النابغة، يجب أن تتوفر لديها عناصر أساسية:
-
حرية بحثية وأكاديمية: استقلال الجامعات وحرية الباحث في طرح الأفكار ونشرها.
-
أمن واستقرار قانوني: محكمة عادلة تحمي الحقوق وتردع الاستبداد والإقصاء.
-
تمويل ودعم مستدام: منح، صناديق مخاطرة، شراكات بين القطاعين العام والخاص.
-
ثقافة تقبل الآخر والنقد البناء: بيئة تحترم الآراء المختلفة وتشجع الحوار.
-
شبكات تواصل ومجتمع مهني: مؤتمرات، مجتمعات تقنية، حاضنات ومسرعات أعمال.
-
حماية الملكية الفكرية: تشريع يضمن للمخترع حقوقه ويشجعه على الابتكار.
-
تشجيع ريادة الأعمال: تقليل البيروقراطية وتسهيل تأسيس الشركات وتداول رؤوس الأموال.
كيف ننمي النبوغ محليًا؟
-
ابدأ من التعليم: تعليم قائم على التفكير النقدي وحل المشكلات لا الحفظ فقط.
-
رعاية المواهب مبكرًا: برامج موهوبين، منح دراسية، مراكز صيانة للمهارات.
-
ربط البحث بالصناعة: تمويل أبحاث تطبيقية تؤدي إلى منتجات حقيقية.
-
ثقافة تقبل الفشل: الفشل خطوة في سلسلة التطوير، ليس سببًا للإقصاء.
-
حماية الحريات: ضمان حرية التعبير والابتكار يمنح دماغ المبدع مناخًا آمنًا.
ختام: الاستثمار في العقل أفضل من استيراد التقنية
نجاح الأُمم لم يأتِ من فراغ؛ بل كان ثمرة بيئة جذابة للعقول، مؤسسات قوية، وحماية قانونية، وثقافة مجتمعية تُقدّر العلم والابتكار. نستطيع استيراد التقنية، لكن لا بدّ أن نُقسّم جهودنا لبناء قدرات محلية تُصنع التقنية وتطورها. الاستثمار في العقول اليوم هو ضمان القدرة على المنافسة غدًا، وهو الطريق لبناء اقتصاد معرفي مستدام لا يعتمد على مورد واحد.